بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
لولا المحابر والمقالم والصحائف والدفاتر
والحافظون شريعة المبعوث من خير العشائر
والناقلون حديثه عن كابرٍ ثَبْت وكابِر
لرأيت من شيع الضلال عساكراً تتلو عساكر
صورة استوقفتني كثيراً، عبرت أكثر من الكلام ، واستفدت من هذا المشهد المؤثر فوائد عدة،نثرتها وصغتها في هذا المقال..
أولها : أن العلم لا يستطاع براحة الجسم.
كما قال الإمام يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ رحمه الله ،فيما رواه مسلم في صحيحه(1421) في كتاب الصلاة بعد أن ساق حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما من طرق عدة،وقد ذكره الإمام مسلم هذا الأثر (لنكتة بديعة)!
فلم ينقطع أبو محمد عن البحث والمطالعة وقد طعن في السن وهو مقعد على فراش المرض..
وقد كان بعض أهل العلم يدفعون المرض عنهم بالقراءة في كتب العلم،منهم شيخ الإسلام ابن تيمية !
قال الإمام ابن القيم في روضة المحبين (70):"وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه فإذا وجد إفاقة قرأ فيه فإذا غلب وضعه فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك فقال إن هذا لا يحل لك فإنك تعين على نفسك وتكون سببا لفوات مطلوبك!
وحدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض فقال لي الطبيب إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض فقلت له لا أصبر على ذلك وأنا أحاكمك إلى علمك أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض فقال بلى فقلت له فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة فقال هذا خارج عن علاجنا أو كما قال".
بل كان بعضهم ممن عشق العلم وهواه ، يذاكر العلم ويلهج به وهو في سياق الموت!
قال الإمام ابن القيم طريق الهجرتين (245):"عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياءِ إليه، وهى حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته.
ولهذا- والله أعلم- كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به".
وهذا ما حصل لزفر بن الهذيل بن قيس العنبري،الفقيه كبير، من أصحاب الإمام أبي حنيفة،المتوفى سنة 158هـ.
قال ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين (178)وحدثني هارون بن سفيان قال : سمعت أبا نعيم قال : دخلت على زفر وهو يجود بنفسه وهو يقول : له ثلاثة أرباع الصداق له خمسة أسداس الصداق وعنده نوح بن دراج يبكي.
وجاء في ترجمة أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة رحمه الله كما في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1 / 36)قال إبراهيم بن الجراح المازني الكوفي القاضي- وهو آخر من روى عن أبي يوسف- قال:" أتيته أعوده فوجدته مغمى عليه فلما أفاق قال لي يا إبراهيم :أيما أفضل في رمي الجمار أن يرميها الرجل راجلاً أو راكباً فقلت :راجلاً فقال: أخطأت :فقلت راكباً فقال لي أخطأت ثم قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه راجلاً وأما ما كان لا يوقف عند فا لأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه وإذا هو قد مات.
وينطبق على الشيخ رفع الله منزلته جلياً واضحاً مقولة :
(من خدم المحابر خدمته المنابر)
قاله محمد بن عبدالباقي الأنصاري .انظر المنتظم(10 / 93)تاريخ الإسلام للذهبي(36 / 393)البداية والنهاية (12 / 217) شذرات الذهب(4 / 107)ذيل طبقات الحنابلة (1 / 78).
ثانيها : أن تحصيل العلم ليس له وقت ينتهي به !
قيل لسهل بن عبدالله التستري : إلى متى يكتب الرجل الحديث قال: حتى يموت، ويصب باقي حبره على قبره. انظرتاريخ الإسلام للإمام الذهبي (21 / 187)..
ورأى أصحاب الحديث، فقال: اجتهدوا أن لا تلقوا الله إلا ومعكم المحابر. رواه قوام السنة الأصفهاني في الترغيب والترهيب(1 / 114)
قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة :العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.انظر وفيات الأعيان(6 / 384) شذرات الذهب(1 / 292)
وقال البغوي عن أحمد بن حنبل أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر وقال صالح رأى رجل مع أبي محبرة فقال له يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين فقال معي المحبرة إلى المقبرة.انظر الآداب الشرعية (2 / 58)
ولقد كان رحمه الله مجتهداً في العلم وتحصيله حتى بعد أن ساد وعرف له فضله عند الخواص والعوام ،وأصبح مما يشار إليه بالبنان !
فلم يثنيه ذاك عن التحصيل والازدياد من العلم ومداومة النظر وملازمة المطالعة.
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا رواه البخاري في كتاب العلم بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.معلقاً مجزوماً به،ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه (26116)،والدارمي في سننه (250)بسند صحيح.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ البخاري وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِم ْ.
ثالثها : حرصه رحمه الله على وقته وهو على هذا الحال..وقد كان أهل العلم أشح بأوقاتهم من شح البخيل بماله.
قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب الفنون رحمه الله: عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبه العلم، وأنا في عشر الثمانين، أجد من الحرص على العلم أسند ما كنت أجده وأنا ابن عشرين. تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (35 / 351)
قال الإمام ابن القيم في الفوائد (31):"إضاعة الوقت اشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".
وقال أبو الفرج بن الجوزي في صيد الخاطر (157):"رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر!
ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد، والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته، بما ينفق في بلد الإقامة، فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك، فيستكثرون منه، فيزيد ربحهم، والغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما خرجوا لا مع خفير ، فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا!
فالله الله في مواسم العمر! والبدار البدار قبل الفوات! واستشهدوا العلم، واستبدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكان قد حَدَا الحادي، فلم يفهم صوته من وقع دمع الندم".
وقال في صيد الخاطر(241):"ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك.{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}".
فاللهم ارحم عبدك عبدالله بن جبرين ورفع درجته في المهدين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يارب العالمين..
كتبه/
سعد بن ضيدان السبيعي
عضو الدعوة بوزارة الشئون الإسلامية
s-subaei@hotmail.com17/ 8/ 1431هـ
صورة رجل استوقفتني كثيراً !
سعد بن ضيدان السبيعي